إن مسيرة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والعروج منه إلى السماوات، إيذان بأن عقيدة الإسلام قد سادت الأديان السابقة وإشارة إلى الربط بين أماكن العبادة فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد اجتمع له الأنبياء والمرسلون السابقون في ساحة المسجد الأقصى وصلى بهم إماما، وكان في هذه الإمامة تأكيد على خاتم الأنبياء والمرسلين، بعثه الله بالدين الخاتم لما سبقه من الأديان، كما أنها دليل ساطع على قيادة الأمة الإسلامية للأمم السابقة، فيمكن اعتبار المعراج إشارة قوية إلى ضرورة الارتفاع بروح المسلم فوق الأهواء، ليحلق بعيداً عن الشهوات والسفاسف من الأمور.
وليست حادثة الإسراء والمعراج مجرد واقعة تتناولها الأقلام كحدث تاريخي مضى وانقضى عهده، أو معجزة لرسول انفصلت بزمانها عن واقعنا المعاش. وإنما هي معجزة حية باقية يتردد صداها عبر المكان والزمان وتستضيء القلوب بنورها الوهاج وسراجها المنير، فتسمو بذات المسلم وترقى به وتفتح أمامه أبواب القرب من الله. لقد كان الإسراء والمعراج جائزة كبرى لنبي صدق ما عاهد الله عليه، وأبى إلا أن يقف صامداً شامخاً أمام قلاع الكفر وعتاة المشركين، ولاقى من الأذى ما لا قدرة لبشر غيره على تحمله حتى دميت قدماه، خاصة بعد فقده – صلى الله عليه وسلم – لنصيريه في المجتمع والبيت، عمه أبي طالب وزوجه خديجة – رضي الله عنها - .
وتعود ذكرى الإسراء والمعراج لتملأ الأرجاء بأريج النبوة وتشد قلوب المسلمين إلى التأمل في هذا الحدث العظيم، الذي كرم الله به نبينا محمداً – صلى الله عليه وسلم - ، فأذهب عنه الهم والغم وأكد مكانته عند ربه فعاد من الرحلة المباركة منشرح الصدر واثقاً بأن الله ناصره ومتم نوره.
إن حكمة الله اقتضت أن يمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – خلال معراجه بمحطة أرضية هي بيت المقدس، كي يبشر الرسول – عليه الصلاة والسلام – ويبشر المؤمنين بانتصار يؤدي إلى عالمية الإسلام وتغلغله في أكثر المناطق صراعاً بين الحق والباطل.
إن فلسطين بقعة مباركة، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها، ولها في قلوب المسلمين جميعاً مكانة سامية. وتحتل مدينة القدس مكاناً مميزاً في نفوس العرب والمسلمين، حيث تهفو إليها نفوس المسلمين، وتشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها، وكل حجر من حجارتها المقدسة، وكل أثر من آثارها.
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية الأولى التي افتتحت بها سورة الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يفرط في واحد منهما، فإنه إذا فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد وضع لعبادة الله في الأرض، كما ورد عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال: «المسجد الحرام، قلت ثم أي ؟ قال:المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً».
ومن المعلوم أن رحلة الإسراء بدأت من المسجد الحرام وانتهت بالمسجد الأقصى، وفي ذلك ربط للمسجدين لن يزول مهما فعل المحتلون، حيث جعل الله سبحانه وتعالى المسجد الأقصى توأماً لشقيقه المسجد الحرام كما جاء في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى... ، وقال - صلى الله عليه وسلم-: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إَلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هذا، وَالمَسْجِدِ الأقْصَى»، فارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى ارتباط عقدي، لأن حادثة الإسراء من المعجزات، ولأن المعجزات جزء من العقيدة الإسلامية.
ففي المسجد الأقصى المبارك صلى رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – بالأنبياء إماما، كما صلى في ساحاته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من مئات الصحابة. وفي جنبات الأقصى رفع الصحابي الجليل بلال بن رباح الأذان بصوته الندي، وفي ظل هذا البيت دفن العديد من الصحابة الكرام وعلى رأسهم عبادة بن الصامت أول قاض للإسلام في بيت المقدس، وشداد بن أوس، وغيرهما من عشرات الصحابة، وما من شبر من أرضه إلاّ وشهد ملحمة أو بطولة تحكي لنا مجداً من أمجاد المسلمين.
وهكذا تبدو كل المنطلقات من المساجد، وهنا يبرز دور المسجد الذي كان داراً للعبادة ومدرسة للعلم وثكنة عسكرية، ومجلس شورى، ومحكمة للقضاء مما أعطى الريادة للمسلمين ومنحهم السمو والعلو والتفوق على باقي الأمم الأخرى. أما هذا الهوان الذي يعيشه المسلمون اليوم، فيعود إلى إبعاد المسجد عن المكانة التي ينبغي أن يتبوأها في حياتهم، كما كانت في عهد الرسول الكريم والعهود الفاضلة التي تلته.
هذه الإشارات كلها تستدعي من كل الأمة العربية والاسلامية بذل الجهود تلو الجهود من أجل استعادة الأقصى، فمعجزة الإسراء والمعراج تذكر المسلمين أيضا بأن مدينة مأوى المسجد الأقصى لا تنعم بالسلام حاليا، وأنها مسلوبة ينبغي تحريرها والسير في طريق الوحدة والتضامن بين المسلمين في كافة بقاع العالم، فالقدس تقول لكم: سوف يتراجع الظلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء أمتنا كلهم. اللهم اجمع شملنا، ووحد كلمتنا، وألف بين قلوبنا... يا رب العالمين